روس وجو هاي

قيم الأسرة الزراعية ترسم الطريق للعالمية

بعد يوم طويل بالمدرسة، يعود "تشارلي" و"فيبي" و"آرشي" إلى منزلهم. وركضًا يقطعون الطريق المتعرج المليء بالتراب والواقع عبر الحقول الخضراء المائلة الغنية بالأغنام ثم يدلفون إلى ممر خاص يوصلهم إلى مزرعة العائلة. حيث تقع مزرعة "سبرينج بانك" التابعة لـ "سيلفر فيرن فارمز"  في شمال (أوتاجو) خارج حدود (أومارو) بخطوات معدودة. يستقل الأطفال دراجاتهم التي تركوها صباحًا على السياج الأمامية ثم يتجهون بها مسرعين إلى وجهتهم وهم يقهقهون ملء أفواههم وحقائبهم تهتز من الحماسة. يصلون إلى لحظتهم المنتظرة حيث تستقبلهم أمهم "جو" بفرحة وقد أعدت شاي ما بعد الظهيرة لتجتمع مع صغارها وتطعم بطونهم المشتاقة لطعامها اللذيذ. يجلس الأطفال الثلاثة حول المائدة ويتبادلون الحديث والضحك والحكايات أثناء استمتاعهم بتناول كعك الزنجبيل اللذيذ الذي تشتهر "جو" ببراعتها في إعداده.

هذا المشهد المفعم بالبراءة والدفء والحيوية يقابله في بقعة أخرى من العالم مشهد آخر يغلب على أجوائه الدقة والحزم والتركيز. في ألمانيا، تحديدًا في مطعم "أوكس آند كلي" بمدينة (كولونيا)، حيث يحيط الشيف التنفيذي "دانييل جوتشليتش" -الحائز على نجمة ميشلان- فريقه بالأطباق التي ستضمها قائمة الطعام الجديدة. ففي فضاء هذا المطعم الفاخر الحاصد للجوائز كل شيء يسير وفق خطوات محسوبة ومعايير عالية لا تلبيها سوى أجود وأفضل المكونات. نحن الآن أمام عالمين مختلفين تمام الاختلاف، يبعدان عن بعضهما البعض بآلاف الأميال، يتحدثان لغات مختلفة ويعيشان في فصول مختلفة؛ تُرى هل يجمعهما شيء يقرب مسافاتهما البعيدة؟ نعم، يجمعهما الاهتمام بلحوم الضأن الفاخرة التي تربت في مراعي نيوزيلندا على العشب الأخضر ولم تتدخل في نموها أية هرمونات.

نسأل الآن سؤالًا آخر: لمَ يقرر شيف عالمي يعمل في أوروبا بإمكانه شراء مكونات أطباقه من شتى أنحاء العالم اختيار لحوم الضأن من "سيلفر فيرن فارمز"؟ وهنا يجيبنا الشيف "جوتشليتش" قائلًا: "لأجعل من الطعام تجربة لا ينساها ضيوف مطعمي الذين دائمًا ما يبحثون عن الأفكار الجديدة المذهلة. ولأننا في "أوكس آند كلي" لا نستخدم في أطباقنا سوى اللحوم التي تربت حيواناتها في مزارع ملائمة لطبيعتها، كانت "سيلفر فيرن فارمز" الخيار المثالي لما تقدمه من مذاق لذيذ وهادئ لا يضاهيه أي مكان آخر".

إن المستهلكين الذي يحبون أكل اللحوم دائمًا ما يبحثون عن الخيار الأفضل والأمثل، ولكن في يومنا هذا تغير مفهوم الجودة، وتطور من اهتمامه فقط بالذوق الشخصي وطيب المذاق إلى الاهتمام بالطريقة التي أُنتجت بها هذه اللحوم وتأثيرها على الكوكب والبيئة، احترامها للأرض وحياة الحيوانات، أي أصبح مفهوم الجودة يهتم بجميع الخطوات التي أوصلت طبق اللحم إلى المائدة وبالشغف للوصول لأجود المنتجات التي تترك أثرها الخاص على تجربة الطعام بأكملها.

أطلقت "سيلفر فيرن فارمز" برنامجًا جديدًا تمامًا لقياس جودة لحوم الضأن، ما يعني أنه يُتاح أمام المزارع المعتمدة توريد الأغنام التي تغذت بشكل كامل على العشب ولم تحصل على أية مضادات حيوية أو هرمونات وكذلك لم تُعدَل وراثيًا ولم تخضع لحقول التسمين. قد تكون هذه المتطلبات أمرًا مسلمًا به في مراعي نيوزيلندا، ولكنها بالفعل عملة نادرة على مستوى مختلف دول العالم.

عندما نقف على أرض شمال (أوتاجو)، نجد أن تربتها ذات قاعدة طينية ثقيلة. ويقول عن ذلك المزارع "روس هاي": لدينا هنا إمكانات متعددة للري ولكننا لا نستطيع ري أرضنا مثلما يفعل المزارعون الآخرون لأن ذلك سيؤدي لإثقال التربة بالمياه، وذلك لأن نوعي تربة تيمارو وكلاريمونت هما الغالبان على هذه المنطقة من شمال (أوتاجو)". وبالنظر للخطة التي تتبعها أسرة "هاي" للحفاظ على البيئة وتركيزها على إعادة التسييج لوقف الممرات المائية بهدف التحسين من أسلوب الرعي، نجد أن جهود الأسرة لها أثر إيجابي على نهج الرعي التجددي وتعزز جودة التجربة بأكملها، ليس فقط للماشية، بل كذلك للمستهلك النهائي الذي قد يكون محله ألمانيا أو نيوزيلندا أو حتى الولايات المتحدة. لذا فاحترام الأرض والحيوانات التي وهبتها لنا الطبيعة من القيم الأساسية التي تتحلى بها هذه الأسرة وكانت على رأس قائمة أولوياتها لأعوام طويلة.

يروي "روس" حكاية المزرعة قائلًا: " لقد اشترى أبي "آلان" المزرعة في عام 1981. وعندما تركت المدرسة، بدأت في العمل مع أبي في جزّ الصوف عن الحيوانات لمدة 7 أو 8 سنوات ثم اتجهت إلى إسكتلندا ومكثت هناك عامًا أعمل في نفس الأمر. وفي عام 2006، توليت أنا وزوجتي "جو" إدارة المزرعة". تدير أسرة "هاي" مزرعة المنزل بمساحة 174 هكتار وتستأجر أرضًا مجاورة لها على الطريق مساحتها 90 هكتار، بالإضافة إلى أرض مساحتها 410 هكتار، أي تدير أراضي إجمالي مساحتها يبلغ 670 هكتار. تضم أراضي الأسرة معالم باهرة من بينها المنارة التاريخية التي بنيت عام 1878 في (كاتيكي بوينت)، والنقطة الجنوبية لشبه جزيرة (موراكي)، وهي منطقة سياحية شهيرة تشاهد فيها طيور البطريق ذات العيون الصفراء وفقمات الفراء وموقع (تي راكا أ هينياتيا با). وهذا المشهد الساحر الذي تلتقي فيه التلال الخضراء مع المنحدرات يبدو كأنه صورة في حلقة من حلقات المسلسل التليفزيوني "Poldark".

تربي أسرة "هاي" داخل مراعيها 2600 نعجة و760 خنزيرًا و300 ثور و4000 حمل. لقد تغيرت الكثير من الأمور منذ كان الجد "آلان" يدير المزرعة، ونظرًا لتعاون آل "هاي" مع "سيلفر فيرن فارمز" لفترة من الزمن تزيد عن 40 عامًا، عايشت الأسرة والشركة العديد من التحولات الجذرية التي طرأت على الصناعة بأكملها. تقول "جو": "بعد أن غيرت "سيلفر فيرن فارمز" هدفها التجاري من بضعة أعوام مضت، تحول نشاطها من مجرد توريد للحوم إلى نشاط أسمى وأوسع نطاقًا له أثره الإيجابي على صحة الحيوانات والأرض والبيئة بأكملها. فمنذ ذلك الحين ونحن نجرب العديد من الأفكار الجديدة مع الشركة وكانت رحلتنا معها ممتعة وثرية بالتطور والمعرفة. في الواقع أنا معتادة على فكرة التطور المهني لعملي كمدرسة، ولكن لأول مرة أجرب هذا التطور في نطاق الرعي والزراعة كان مع برامج "سيلفر فيرن فارمز". فجهودها بدلت مفهوم الرعي والزراعة لدينا وطورته، كما أشبعت نهمي للتغيير والتطور".

أسست "جو" مجموعة تضم المزارعات اللاتي لهن نفس العقلية في الرعي داخل منطقة شمال (أوتاجو)، كما يشترك الزوجان في مجموعة عمل "شراكة اللحوم الحمراء للأرباح" المخصصة للمزارعين المحليين ليجتمعوا فيها ويتعاونوا لفهم المجالات المختلفة لصناعة الرعي والزراعة. وتأتي نقاشات المجموعة عن كل ما يخص الرعي والزراعة بدءًا من الأمور المالية وحتى الموارد البشرية وتعيين الموظفين. يتحلى كلٌ من "روس" و"جو" بفكر متطلع للمستقبل، لذا يحرصان على التجربة والتطور وكسب المعرفة فاشتركا مؤخرًا في ورشة عمل الشيف "جريج باينر" في مطعم "بروبيشين سموك هاوس" بمدينة (دونيدين)، حيث ذهبا في جولة لاستكشاف ما يحدث في ما وراء الكواليس بالمطبخ ليكوِّنا صورة واضحة عن طريقة التعامل مع منتجاتهما من اللحوم من وجهة نظر الشيف.

كانت أسرة "هاي" من أوائل المزارعين المشتركين في برنامج "سيلفر فيرن فارمز" للحوم الضأن. تقول "جو": "كان من الممتع معرفة جودة الطعام التي تجعل لحوم أغنامنا رائعة المذاق. فقد أدركت الشركة أن المستهلك يرغب في تناول اللحوم التي تغذت حيواناتها على العشب الطبيعي ولم تتناول أية مضادات حيوية أو هرمونات. وبالرغم من أننا نفعل ذلك بالفعل لأننا لا نأكل سوى هذه اللحوم، إلا أن الاشتراك في هذا البرنامج نمى لدينا رغبة في تلبية تلك الطلبات. فأنا أدرك أنك عندما تسافر إلى مكان آخر وتطلب طبقًا من اللحم ستستطيع معرفة أن الحيوانات التي أتت منها قطعة اللحم هذه بالطبع مغذاة على الحبوب. أما حيواناتنا نحن فقد تربت منذ ولادتها في المراعي وتغذت على العشب الأخضر الغني المليء بالفوائد وعاشت الحياة الصحية الطيبة التي تستحقها".

شيف عالمي ذائع الصيت

تمتلك "سيلفر فيرن فارمز" مجموعة تضم قاعدة واسعة من ألمع الشيفات العالميين في مختلف الدول بهدف تعزيز وجودها داخل المطاعم الشهيرة ونشر اسمها، ومن بين الشيفات الشهيرة: الشيف "دانييل جوتشليتش" من مطعم "أوكس آند كلي" الواقع في حي (رايناهافن) بمدينة (كولونيا) في ألمانيا التي من ضمن الدول التي يشملها برنامج شراكة "سيلفر فيرن فارمز". لطالما حلم الشيف "جوتشليتش" بامتلاك مطعمه الخاص، وعلى الرغم من حصوله على نجمة ميشلان مرتين إلا أنه في الوقت ذاته لم يتوقع الأمر. ويقول: "ثمة العديد من المطاعم الرائعة التي لم تُمنَح أي نجمة بعد. فأظن أن ما يميز مطعمنا هو تقديمنا للجودة العالية بصورة دائمة. لذا أشعر  أنني نلت شرفًا عظيمًا". فإن ألمانيا تضم أكثر من 70 ألف مطعم ولم يحصل سوى 38 مطعمًا منها على نجوم ميشلان. 

يقول "جوتشليتش" إن أطباقه يجب أن تقدم لضيوف المطعم تجربة استثنائية وملهمة، وليس مجرد وجبة عادية. فيقول: "نطبق نظامًا مختلفًا يعتمد على عنصر المفاجأة، حيث يختار الضيوف عدد الوجبات التي يريدونهاـ وأحاول أن أكتب طلبهم بنفسي حتى نخلق جوًا ودودًا في المكان". ويطل المطعم على نهر الراين ويتكون من طابقين وبه 48 مقعدًا. كما يضم طاولة خاصة بالشيف يمكن من خلالها رؤية المطبخ بوضوح. يتميز المطعم بتصميمه الهادئ والبسيط المكون من جدران بيضاء وطاولات وكراسٍ خشبية. عندما تدخل من الباب تجد على كل طاولة منديلًا مطويًا وطبقًا وكأسًا وتستشعر الفخامة في كل مكان.

تم اختيار "جوتشليتش" للقب "شيف الشهر"، ويقول: "إنني لا أستخدم منتجات "سيلفر فيرن فارمز" في الأطباق الرئيسية فقط، بل حتى في الأطباق الجانبية، لأن الهدف الأساسي لوصفاتنا هو إنعاش حواس ضيوفنا".